بعيونكم لا تشوفوها.. بس شوفوها بعيوني
دمشق هي: ذلك الشتاء , المُحمل بالخير من السماء, من ثلج و مطر ليغسل به الأرض و النفوس, و يروي عطش النبات و العباد. أظن أن مطر دمشق لا يُشبه مطر أي مدينة أخرى و لو أننا في أحيان كثيرة نقول بأننا لا نستحقه, بس الله كريم. وبينما أنت سائراً مبتسماً, تأتي سيارة مسرعة فتبلل ثيابك بمياه الارض , و بلحظة تحاول أن تغضب, لكن من فرط السعادة بتلك اللحظة, تكون أكبر من الموقف, فتعود للابتسام.
أما ليالي دمشق الشتوية فهي لوحدها لوحة فترى ركناً آخر لأصدقاء جلسوا يلعبون "التريكس أو الطرنيب" في مقهى من مقاهي الشام و انقسموا لفريقين و أصوات ضحكاتهم و اتهاماتهم بالغش لبعضهم البعض تتناثر في المكان و أمامهم مستلزمات السهرة من "موالح" و "ستاتي" و "الفول النابت" و "البليلة" و "الأركيلة" و يُخيم على اللوحة صوت أم كلثوم يصدح. فكما صباحات دمشق فيروزية, فلياليها كلثومية من الطراز الأول.
و عندما يغمرنا الله بكرمه, تكتسي دمشق بالثوب الابيض الثلجي, و هنا لك أن تتخيل إذا خرجت من بيتك, ما الذي سيجري لك, حيث ستتعرض وأنت ماشي بأمان الله , بكرات الثلج تنهمر عليك من حيث تدري ومن حيث لا تدري, و حينها لن تجد سبيلاً أمامك إلا أن تسرق كمشة ثلج من سطح أقرب سيارة, و ترمي بها من تقابله.. متخلياً عن وقارك ورزانتك و تضحك كما الكل يضحك.
دمشق هي: ذلك النهر الجبار "بردى" الذي يُصر على التمسك بالحياة مستمداً قوته من ماضيه المجيد رغم قسوة الزمن عليه.. وهو لو استطاع أن يرتوي من حبنا, لفاض بالخير وضج بالحياة.
دمشق هي صلاة الاستسقاء التي ما أن ننتهي منها حتى يأتي الجواب من السماء بأمر رب السماء.
دمشق هي: ذلك الصيف المتمثل بسيران عائلات الشام البسيطة التي تخرج أيام العطلة إلى الغوطة ومصطبات عين الخضرة وعين الفيجة , فتراهم كلٌ مشغول بتنفيذ مهمته, فترى النسوة منشغلات بإعداد التبولة, والرجال يقومون بشي اللحوم, والأطفال يلعبون , و تسمع من هنا وهناك أصوات طاولة الزهر والأركيلة, و لا تنس من أخذ على عاتقه مهمة الغناء و إشاعة المرح بين الحاضرين.. فتراه ممسكاً بالدربكة, و الكل يشاركه في أغاني مثل "سكابا يا دموع العين" " يا طيرة طيري يا حمامة" "يا مال الشام" و غيرها من أغاني السيارين الدمشقية. و بعد الطعام يعم الهدوء وتبدأ مباريات لعب "الشدة" و الطاولة من "مغربية "و "محبوسة" وفي الليل يعود الجميع إلى بيوتهم بحالة مُغايرة تماماً عن الحالة التي غادروها فيها, فالخمول والتعب يلفهم, فلا يملك أحدهم القوة للغناء أو الكلام ، اللهم سوى تعليقات بايخة ومع ذلك تضحك الجميع.
دمشق هي "قاسيون" ذلك الجبل الآسر والذي يمنحك صورة ما إن تراها عيناك حتى يطبعها عقلك و يخفق لروعتها قلبك،فما بالك إن تذكرتها وأنت تعلم أنك محروم منها
دمشق هي عجئة طريق بيروت ووادي بردى في أيام الجمعة...هي "بلودان" و "مورا" و "أبو زاد" بضجيج الناس و الأولاد..هي "بقين" و "مضايا" و "الزبداني"ا
دمشق هي: سوق الحميدية الذي يحرّض لديك نزعة لشراء أشياء لاتحتاجها وذلك لتنوع المعروض وكثرته ..دمشق هي القباقبية وقهوة النوفرة, والبزورية
دمشق هي سوق الخياطين وسوق تفضلي يا خانم والمسكيَة و قلعة دمشق و تمثال صلاح الدين وقبر صلاح الدين.
دمشق هي: شوارع باب توما والقصاع والغسّاني التي تصبح لوحات فنية في أعياد الميلاد. فكما الناس تكون سعيدة ترى الشرفات جميعها سعيدة و تنطق نوراً من الزينة والاضاءة التي يتفنن كل بيت في وضعها.
دمشق هي: رمضان ومدفع الافطار والامساك والمسَحر. و بائعي المعروك والناعم والعرقسوس, هي الشوارع الخالية تماماً من الناس في لحظة قول: "الله أكبر"ا
دمشق هي مئذنة "سيدي بلال" وصلاة التراويح و"التهجد وليلة القدر في جامع بدر" ... هي "جلسة الصفا في جامع الإيمان دبر كل صلاة فجر وحتى طلوع الشمس" ويوم الوقفة وزكاة الفطر وتكبيرات العيد, وزحمة الوقوف على الدور عند سميراميس, ومهنا ، ونبيل نفيسة لتحظى "بالمعمول" و "الكول وشكور" و "المبرومة " و كلمة "كل سنة و انت سالم" التي تقولها و تسمعها كثيراً
دمشق هي: يوم الثلاثاء الساعة الواحدة و النصف, و الناس جميعاً في السيارات أو البيوت يستمعون لـ "حكم العدالة" دمشق هي: عندما تتعثر في الشارع تجد الكثير الكثير ليقول لك: " الله يجيرك"ا
دمشق هي : بائعي الصبارة بساحة الروضة،هي عجئة سوق الحمراء والصالحية والشعلان
دمشق هي: ساحة الأمويين التي أخدت من أعمارنا سنوات, حتى رأيناها كما نشتهي و نتمنى.
دمشق هي الزحام المختلط بالحب والتذمر والبساطة والألفة والإيمان . دمشق هي: أصوات الآذان الذي طالما أحرص على سماعه و انصت إليه و أردد ورائه بإحساس غريب ينتابني, و أذان الجامع الأموي الجماعي الذي تنفرد دمشق به دون غيرها من البلاد.
دمشق هي: عندما تمشي في حارة ما, فتجد الأولاد يلعبون الكرة فتدعو الله في قرارة نفسك, أن تأتي الكرة أمامك بطريق الخطأ, حتى تشوطها و تشاركهم و تستعيد ذكريات طفولتك.
دمشق هي: ليست كل ما ذكرت لأن كل ما ذكرت ما هو إلا جزء من جزء من جزء مما أشعر به.
فبالله عليكم أجيبوني : هل نحن نسكن الأوطان أم الأوطان هي التي تسكننا؟
دمشق.... هي أيام عشتها في وطن كان..
وآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآ آآآآآآآآآه.